فصل: تفسير الآية رقم (57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أريد بالايذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازاً لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى‏:‏ هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه، وقيل تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه، وقيل في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم هو قولهم‏:‏ شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة والسلام، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي؛ والحق هو العموم فيهما، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عز وجل لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع الله تعالى‏.‏

وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء، وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء ‏{‏لَّعَنَهُمُ الله‏}‏ طردهم وأبعدهم من رحمته ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ بحيث لا يكادون ينالون فيها شيئاً منها، وذلك في الآخرة ظاهر، وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ‏}‏ مع ذلك ‏{‏عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ يصيبهم في الآخرة خاصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات‏}‏ يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل، وتقييده بقوله تعالى ‏{‏بِغَيْرِ مَا اكتسبوا‏}‏ أي بغير جناية يستحقون بها الأذية شرعاً بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاى فمنه ومنه‏.‏

وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوماً لأبي‏:‏ يا أبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت منى كل موقع ‏{‏والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات‏}‏ والله إني لأعاقبهم وأضربهم فقال‏:‏ إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ وقوله سبحانه ‏{‏فَقَدِ احتملوا بهتانا‏}‏ أي فعلاً شنيعاً وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الاثم، وقيل احتمل بهتاناً أي كذباً فظيعاً إذا كان الإيذان بالقول ‏{‏وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ أي ظاهر ابينا خبره، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون علياً كرم الله تعالى وجهه ويسمعونه ما لا خير فيه‏.‏

وأخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت»

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها انها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أخذ صفية بنت حي رضي الله تعالى عنها، وعن الضحاك‏.‏ والسدى‏.‏ والكلبي أنها نزلت في زاناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلاً أو تجاهلاً لاتحاد الكل في الزي واللباس، والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهدفي هذه الآية قال‏:‏ يلقي الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بماذا أصابنا هذا فيقال‏:‏ بأذاكم المسلمين، وأخرج غير واحد عن قتادة قال‏:‏ إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم قال‏:‏ أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم ثم قرأ صلى الله عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية»

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا النبى‏}‏ بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجراً لهم عن الإيذاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عز وجل‏:‏

‏{‏قُل لازواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ روي عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلاً لقضاء الحاجة في الغيظان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن اماء فأمرت الحراير أن يخالفن الإماء بالزي والتستر ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن، والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير‏:‏ المقنعة، وقيل‏:‏ الملحفة، وقيل‏:‏ كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل‏:‏ كل ما تتستر به من كساء أو غيره، وأنشدوا

تجلببت من سواد الليل جلبابا *** وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، والادناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الارخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل‏.‏

ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال‏:‏ أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال‏:‏ أراد بالانضمام معنى الأدناء، وفي الكشاف معنى ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ‏}‏ يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك‏.‏

وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل‏:‏ على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه‏.‏

واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن محمد بن سيرين قال‏:‏ سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وقال السدى‏:‏ تغطى إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وقال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏:‏ تلوى الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الألف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه، وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه تغطى وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وجماعة عن أم سلمة قالت‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت ‏{‏مُّبِيناً يأَيُّهَا النبى قُل لازواجك وبناتك‏}‏ الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان‏.‏

ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحداً من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزأ منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية‏.‏

وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع‏.‏ أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ عن قلابة قال‏:‏ كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول‏:‏ القناع للحرائر لكيلا يؤذين؛ وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ رأي عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال‏:‏ القي القناع لا تتشبهي بالحرائر، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رآها مقنعة‏:‏ يالكعاء أتشبهين بالحرائر‏؟‏ وقال أبو حيان‏:‏ نساء المؤمنين يشمل الحرائر والاماء والفتنة بالاماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستر ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة مطلقاً وإلا فيحرم، وقال القهستاني‏:‏ منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وإما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها‏.‏ وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقاً عن غيرهن فتأمل؛ و‏{‏يُدْنِينَ‏}‏ يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد ‏{‏قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1 3‏]‏ وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلى الله عليه وسلم على أبيها وعليها وسلم وأما رقية‏.‏ وأما كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسلام ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الإدناء والتستر ‏{‏أدنى‏}‏ أي أقرب ‏{‏أَن يُعْرَفْنَ‏}‏ أي يميزن عن الاماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذائهم‏.‏

ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر ‏{‏فَلاَ يُؤْذَيْنَ‏}‏ من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء، وأياً ما كان فقد قال السبكي في طبقاته‏:‏ إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزاً لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الاخلال بالتستر، وقيل‏:‏ يغفر ما سلف منهن من التفريط‏.‏ وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقاً فهو غير مناسب للمقام، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاماً وهو كما ترى ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله، وقيل‏:‏ رحيماً بهن بعد التوبة عن الاخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقبل‏:‏ رحيماً بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون‏}‏ عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه ‏{‏والمرجفون فِى المدينة‏}‏ من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية، وأصل الأرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها، والغاير بين المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن مالك بن دينار قال‏:‏ سالت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال‏:‏ هم أصحاب الفواحش، وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضاً، وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ هو قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا، وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضاً‏.‏

وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم‏.‏

وأخرج هو أيضاً عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعاً هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد

هو الملك القرم وابن الهمام *** فكأنه قيل‏:‏ لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال‏:‏ أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه، وقال الراغب‏:‏ غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلاناً بكذا ألهجت به، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ‏{‏ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ‏}‏ عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في المدينة ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي زماناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم‏.‏

وفي الآية عليه كما في «الانتصاف» إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد، ونصب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدري، وجوز أن يكون نصباً على الحال أي إلا قليلين أطلاء، ولا يخفى حاله على ذي تمييز‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏مَّلْعُونِينَ‏}‏ نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل ‏{‏لاَ يُجَاوِرُونَكَ‏}‏ والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3 5‏]‏ وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين، وجوز أن يكون حالاً من ضميرهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا ثُقِفُواْ‏}‏ أي حصروا وظفر بهم، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه ‏{‏أُخِذُواْ‏}‏ أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير ‏{‏وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً‏}‏ أي قتلوا أبلغ قتل‏.‏ وقرىء ‏{‏قاتلوا‏}‏ بالتخفيف فيكون ‏{‏تَقْتِيلاً‏}‏ مصدراً على غير الصدر‏.‏ واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقاً وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة، ثانيها الجواز مطلقاً، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط‏.‏ وجوز على تقدير كون ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ حالاً أن يكون ‏{‏مَّلْعُونِينَ‏}‏ بدلاً منه‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال‏:‏ والصحيح أن ‏{‏مَّلْعُونِينَ‏}‏ صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ مستثنى من الواو في ‏{‏لاَ يُجَاوِرُونَكَ‏}‏ والجملة الشرطية صفة أيضاً أي مقهورين مغلوباً عليهم اه، وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ‏}‏ مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك‏.‏

‏{‏وَلَن تَجِدَ‏}‏ أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبداً ‏{‏لِسُنَّةِ الله‏}‏ لعادته عز وجل المستمرة ‏{‏تَبْدِيلاً‏}‏ لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم، وفي «تفسير الفخر»‏:‏ ‏{‏وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً‏}‏ أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ‏.‏ وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحداً قال به‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها‏:‏ كان النفاس على ثلاثة أوجه‏:‏ نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوهاً من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أ يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهن فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين يكابرون النساء ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏ يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّلْعُونِينَ‏}‏ ثم فصلت الآية ‏{‏أَيْنَمَا ثُقِفُواْ‏}‏ يعملون هذا العمل مكابرة النساء ‏{‏أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً‏}‏ ثم قال السدي‏:‏ هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلاً وما فوق اقتصوا أثرا امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنة الله في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلاً فمن كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر انتهى، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم‏.‏

وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل‏.‏ وحكى ذلك عن الجبائي، وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3 7‏]‏ وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي، وقيل‏:‏ إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة، وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلاً ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطاً بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة‏}‏ أي عن وقت قيامها ووقوعها، كان المشركون يسألونه صلى الله عليه وسلم عن ذلك استعجالاً بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتاً واليهود امتحاناً لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحياً أو لا ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله‏}‏ لا يطلع سبحانه عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ‏}‏ خطاب مستقل له صلى الله عليه وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجىء عن قريب، وما استفهام في موضع الرفع بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها، والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلاً‏.‏

‏{‏لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً‏}‏ أي لعلها توجد وتتحق في وقت قريب فقريباً منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير، و‏{‏تَكُونُ‏}‏ تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ الخبر واعتبر وصفاً لا ظرفاً فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئاً قريباً، وجوزأن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث أن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ فذكر، ولا يخفى بعده، وقيل إن قريباً لكونه فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن رحمت الله قريب من المحسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6 5‏]‏ وقد تقدم ما في ذلك، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين‏}‏ على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة ‏{‏وَأَعَدَّ‏}‏ هيأ ‏{‏لَهُمْ‏}‏ مع ذلك في الآخرة ‏{‏سَعِيراً‏}‏ ناراً شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً‏}‏ متولياً لأمرهم يحفظهم ‏{‏وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ناصراً يخلصهم منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار‏}‏ ظرف لعدم الوجدان، وقيل لخالدين، وقيل لنصير، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب، ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو جعفر الرواسي‏.‏ ‏{‏تَقَلُّبُ‏}‏ بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على الأصل، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ ‏{‏اسودت وُجُوهُهُمْ‏}‏ بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب ‏{‏وُجُوهُهُمْ‏}‏ على المفعولية‏.‏

وقرأ عيسى الكوفة ‏{‏تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ‏}‏ بإسناد الفعل إلى ضمير السعير اتساعاً ونصب الوجوه ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفيظعة كأنه قيل‏:‏ فماذا يصنعون عند ذلك فقيل‏:‏ يقولون متحسرين على ما فاتهم ‏{‏ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا‏}‏ فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير ‏{‏وُجُوهُهُمْ‏}‏ أو من نفسها‏.‏

وجوز أن يكون هو الناصب ليوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمراً كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضرباً من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه‏.‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا‏}‏ أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا ‏{‏وَكُبَرَاءنَا‏}‏ أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران، والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار والأفهم في مقام التحقير والإهانة‏.‏

وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب التشفي، وقيل‏:‏ باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله‏:‏

وألفي قولها كذباً ومينا *** والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم، وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك‏.‏

وقرأ الحسن وأبو رجاء‏.‏ وقتادة‏.‏ والسلمي‏.‏ وابن عامر‏.‏ والعامة في الجامع بالبصرة ‏{‏ساداتنا‏}‏ على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات، وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة، ثم إن كون سادة جمعاً هو المشهور، وقيل‏:‏ اسم جمع فإن كان جمعاً لسيد فهو شاذ أيضاً فقد نصوا على شذوذ فعلة في جمع فعيل وإن كان جمعاً لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضاً لأن فاعلاً لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح ‏{‏وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا‏}‏ أي جعلونا ضالين عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل، والألف للإطلاق كما في ‏{‏وَأَطَعْنَا الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب‏}‏ أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذاباً على ضلالهم في أنفسهم وعذاباً على إضلالهم لنا ‏{‏والعنهم لَعْناً كَبِيراً‏}‏ أي شديد عظيماً فإن الكبر يستعار للعظمة مثل ‏{‏كَبُرَتْ كَلِمَةً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ ويستفاد التعظيم من التنوين أيضاً، وقرأ الأكثر ‏{‏كَثِيراً‏}‏ بالثاء المثلثة أي كثير العدد، وتصدير الدعاء بالنداء مكرراً للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏كَبِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى‏}‏ قيل نزلت فيما كان من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلى الله عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام ‏{‏فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ‏}‏ أي من قولهم أو الذي قالوه وأياً ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل مجازاً عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع، فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السلام‏.‏

وقيل‏:‏ لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فهي فبرىء من قولهم على أن ‏{‏برأه بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصوداً بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بد من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السلام عيب في بدنه‏.‏

أخرج الإمام أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ والترمذي‏.‏ وجماعة من طريق أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السلام خلا يوماً وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأء الله مما قالوا‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السلام من قتل هارون، أخرج ابن منيع‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية‏:‏ صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حباً لنا منك وألين فآذوه، من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم، وفي رواية عن ابن عباس‏.‏

وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما نام أخذ هارون الموت فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال‏:‏ ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه، وقيل‏:‏ ما نسبوه إليه عليه السلام من الزنا وحاشاه، روى أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها ودفع إليها مالاً عظيماً فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيداً ما جمع الموصول، وقيل‏:‏ ما نسبوه إليه من السحر والجنون، وقيل‏:‏ ما حكى عنهم في القرآن من قولهم‏:‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4 2‏]‏ وقولهم ‏{‏لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 6‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏ إلى غير ذلك، ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر‏.‏

‏{‏وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً‏}‏ أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عز وجل، وفي معناه قول قطرب‏:‏ كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد‏:‏ كان مقبولاً، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيهاً مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئاً إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل‏:‏ وجاهته عليه السلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن مسعود‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏عَبْداً‏}‏ من العبودة ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ بلام الجر فيكون عبداً خر كان ووجيهاً صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة القراءة الشواذ كلام‏.‏

قال ابن خالويه‏:‏ صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان ‏{‏عَبْدُ الله‏}‏ على قراءة ابن مسعود ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقاً، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال «صاحب الروضة»‏:‏ وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان، وههنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلاً عما يؤذي رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَقُولُواْ‏}‏ في كل شأن من الشؤن ‏{‏قَوْلاً سَدِيداً‏}‏ قاصداً ومتوجهاً إلى هدف الحق من سد يسد بقكسر السين سداداً بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته، والمراد على ماقيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسلام، وعن مقاتل‏.‏ وقتادة أن المعنى وقولوا قولاً سديداً في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وزيد‏.‏ وزينب، وعن ابن عباس‏.‏ وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله، وقيل‏:‏ هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل‏:‏ ما فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم‏}‏ بالقبول والإثابة عليها على ما روى عن ابن عباس‏.‏ ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية‏.‏

‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ويَجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات ‏{‏فَقَدْ فَازَ‏}‏ في الدارين ‏{‏فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته‏.‏

قال في «الكشاف» وهذه الآية يعني ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70‏]‏ إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام لأن وصفه بوجهاته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات والارض *والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا‏}‏ لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيهاً على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى الاستعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الإعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه‏.‏

‏{‏وَحَمَلَهَا الإنسان‏}‏ أي هذا الجنس نحو ‏{‏إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 6‏]‏ و‏{‏إِنَّ الإنسان ليطغى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6‏]‏ وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق، وتخيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضاً وكذا الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطاً في الظلم مبالغاً فـ يالجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلاً، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلاً عن وجوده في غالبها، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضاً من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولاً لتهويل الخطاب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار ثانياً لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية‏.‏ ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1 7‏]‏ بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين‏.‏ وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولاً وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانياً، وقد يقال‏:‏ مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عز وجل بها وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ‏}‏ الخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروى نحوه عن سعيد بن جبير‏.‏ وهو غير ما ذكر أولاً بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل‏:‏ الصلاة فقد روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال‏:‏ إنه دخل على وقت أمانة عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل‏:‏ الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق‏.‏

وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الأمانة ثلاثة الصلاة والصيام والغسل من الجنابة ‏"‏ وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود‏.‏ وقيل هي أن لا تغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير، وقيل‏:‏ هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية‏.‏ وقيل هي الأعضاء والقوى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع‏.‏ والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «أول ماخلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة»‏.‏

ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبر إن صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات الخ‏.‏

وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عز وجل خلق للسماوات والأرض والجبال فهماً وتمييزاً فخيرت في الحمل فأبت وروى ذلك عن ابن عباس‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن الأنباري عن ابن جريج قال‏:‏ بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال‏:‏ إني فارض فريضة وخالق جنة وناراً وثوباً لمن أطاعني وعقاباً لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثواباً ولا عقاباً ونحو ذلك قالت الأرض والجبال، ويعلم مما ذكر أن الاباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل، وقيل‏:‏ لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولاً‏.‏

وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السلام، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض‏.‏

فقد أخرج ابن جرير‏.‏

وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر وقيل‏:‏ بدونه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال‏:‏ للسماوات احملي هذه فأبت وقالت‏:‏ إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه‏:‏ للأرض احمليها فقالت‏:‏ لا طاقة لي بها وقال تعالى للجبال‏:‏ احمليها فقالت‏:‏ لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانها لا تضعها فهذه الأمة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السلام‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السلام عرضها عليه فقال‏:‏ يا رب وما هي‏؟‏ قال سبحانه‏:‏ هي إن أحسنت أجرتك وأن أسأت عذبتك قال‏:‏ فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطائهم الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السلام وأنه بعد أن سمع الاباء حملته الغيرة على الحمل، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عز وجل بنص ‏{‏إِنَّ الله اصطفى آدَمَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏ بمزيد الظلم والجهل؛ وكون المعنى كان ظلوماً جهولاً بزعم الملائكة عليهم السلام قول بارد، وحمله على معنى كان ظلوماً لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولاً بقدر ما دخل فيه أو بعاقبه ما تحمل لا يزيل البعد، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلى ونفسه ذلك كما قيل‏:‏

الظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم

إلا على القول بإرادة الجنس، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظاً ومعنى، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها، ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا‏:‏

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة *** وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

فيكون الإباء امتناعاً من الخيانة وإتياناً بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوماً جهولاً ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون‏:‏ إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض‏:‏ هذا أمانة عندك كذا شهراً أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيراً، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال‏:‏ عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفاً لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصاً في الخيانة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبابائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل‏:‏ حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسى سورتها، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2 7‏]‏ تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّيُعَذّبَ‏}‏ تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة‏:‏ إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلوماً جهولاً فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا أختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عز وجل قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ في موضع التعليل للحمل‏.‏

ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلاً أو بعضاً على وجه المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيُعَذّبَ‏}‏ الخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل، وقيل‏:‏ لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه، وأيضاً أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 71‏]‏ فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم‏.‏

وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ أي مبالغاً في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم‏.‏

ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ الخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهي يتعلقان به عليه الصلاة والسلام، وفيه أيضاً إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عز وجل حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏ لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر «إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما»

وقيل‏:‏ إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول‏:‏ إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة، والثاني‏:‏ إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه‏:‏ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلاً عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول ‏{‏وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل‏:‏ الولد سر أبيه، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثاً بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر ‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 5 9‏]‏ ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم ف‘خوانكم في الدين ومواليكم‏}‏

‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ فيه إشارة إلى أن للدين نوعاً من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث ‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ لأنه عليه الصلاة والسلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية ‏{‏وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ أي في الأزل إذ كانوا أعياناً ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين ‏{‏ليسئل الصادقين عن صدقهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8‏]‏ سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقاً إلى الوجود الحقيقي ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسماً يقال لهم اليثربيون وقال‏:‏ هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين‏:‏ ‏{‏ياأهل‏.‏ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3 1‏]‏ إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1 2‏]‏ لأنه عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عز وجل كثيراً لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار ‏{‏مّنَ المؤمنين رِجَالٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ أي رجال كاملون، وقول بعضهم‏:‏ أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح‏.‏

‏{‏ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8 2‏]‏ الخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سبباً لمفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسلام تكون سبباً للأجر العظيم ‏{‏يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 0 3‏]‏ الخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏ إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الامانة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2 7‏]‏ الآية فلنذكر بعضاً من ذلك فنقول‏:‏ قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص‏:‏ إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانهب السعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى‏.‏

وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهراً جامعاً للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفى، وقال آخر‏:‏ هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوماً أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمراً عظيماً وكونه جهولاً أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدى حقها من حيث أنهما صارتا سبباً لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذماً في حق شخص ومدحاً في حق آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل‏.‏

‏[‏سورة سبأ‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ أي له عز وجل خلقاً وملكاً وتصرفاً بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة جميع ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما فكأنه قيل‏:‏ له هذا العالم بالأسر، ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراد المخلوقات به عز وجل ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلاً عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عز وجل فما هذا شأنه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى، وفي الوصف بما ذكر أيضاً إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك‏:‏ أحمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به احمده على حملانه وكسوته، وفي عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الحمد فِى الاخرة‏}‏ على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام، وفي تقييد الحمد فيه بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضاً فتفيد الجملتان أنه عز وجل المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك وأصله الحمدلله الخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر، وقال أبو السعود‏:‏ إن الجملة الثانية لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به سبحانه على أن ‏{‏فِى الاخرة‏}‏ متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به ‏{‏لَهُ‏}‏ من الاستقرار، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضاً بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 4 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4 3، 5 3‏]‏ وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3 4‏]‏ أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح‏.‏

وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولاً، والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة طريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط، وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وقول الزمخشري‏:‏ إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله‏:‏ لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطي الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصوراً على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر، وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع اعتناء بشأن نعم الآخرة، وقيل‏:‏ للاختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة، وكأنه أراد لتأكيد الاختصاص أو بني الأمر على أن الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمني، وأما أنه أراد لاختصاص الاختصاص فكما ترى، ويرد على قوله‏:‏ ولا كذلك نعم الآخرة ‏{‏عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9 7‏]‏ فتأمل ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسبما تقتضيه الحكمة ‏{‏الخبير‏}‏ العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها، وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها، وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الاختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعماً أيضاً بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم بموضع الاستحقاق والاستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازاً، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض‏}‏ الخ استئناف لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية، وجوز أن يكون تفسيراً لخبير، وأن يكون حالاً من ضميره تعالى في ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 1‏]‏ فيكون ‏{‏لَهُ الحمد فِى الاخرة‏}‏ اعتراضاً بين الحال وصاحبها أي يعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات قاله السدي‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن، والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب‏.‏

‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ أي من الملائكة قاله السدي‏.‏ والكلبي، والأولى التعميم فيشمل ‏{‏مَا يُنَزّلٍ‏}‏ المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضاً ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ‏}‏ الأبخرة الأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضاً، ويراد بالسماء جهة العلو مطلقاً ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت إفادة للترقي في المدح، وضمن العروج معنى السير أو الاستقرار على ما قيل فلذا عدى بفي دون إلى، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى اعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي الله كذا في «البحر»‏.‏

وفي «الكشاف» عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ‏{‏نُنَزّلُ‏}‏ بالتشديد ونون العظمة ‏{‏وَهُوَ‏}‏ مع كثرة نعمته وسبوغ فضله ‏{‏الرحيم الغفور‏}‏ للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقرراً للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب‏.‏